يقال إن النوم سلطان ونعمة، لكنه تحول في مدينة كالاتشي في كازاخستان إلى نقمة. إذ أصبح سكانها يسقطون فجأة ويغطون في سبات عميق بشكل قهري. هذا السبات لا يدوم للحظات أو لساعات معدودة وإنما قد يمتد لأسبوعين أحيانا. وعندما يستيقظون يعانون من هلوسات مستمرة، وفقدان جزئي للذاكرة. فما هي حكاية القرية النائمة؟
قرية النوم العميق
تقع قرية كالاتشي المعروفة باسم “قرية النوم”، في شمال كازاخستان. وتبعد عن أستانا العاصمة بـ 40 كيلومتراً. بينها وبين الحدود الروسية نحو 230 كيلومتراً. ولطالما رافق القرية في العهد السوفياتي شكل من السرية إذ لم يكون لها وجود على الخريطة.
أهالي وسكان المدينة صغارا وكبارا من مختلف الأعمار والأجناس، يسقطون في سبات تام لأيام متواصلة. يتمكن منهم النوم سواء كانوا في العمل أو وهم يقودون سياراتهم أو حتى أثناء مشيهم في الشارع في عز النهار.
حينها يفقدون القدرة على الحركة والتوازن ويظهرون كالجثث شبه أموات. يرافق هذا النوم عددا من الأعراض مثل فقدان الذاكرة، والغثيان، واستمرار النوبة لأسابيع متتالية، إضافةً إلى التخيلات والهلاوس التي تسيطر على عقولهم.
ونتيجة لذلك، شهدت المدينة نزوح وإخلاء القرية من السكان خوفا من الوباء الغامض. خاصة بعد أن استعصى على الأطباء والعلماء إيجاد حل أو حتى تفسير، لمئات حالات النوم العميق.
في مقابل ذلك، تمسك البعض بقريتهم وبيتهم وتعايشوا مع الوضع واعتبروه طبيعيا ولا يلحق بالضرر الكبير والأذى بهم.
بداية وباء النوم الغامض
تعود الشرارة الأولى لهذا المرض، وفقا لـ موقع “مينتال فلس” إلى عام 2010. حيث تم الإبلاغ عن أول إصابة بمرض النوم العميق، وهي ليبوف لايبوكا التي كانت تتحدث مع أصدقائها، حتى سقطت فجأة من على كرسيها دون حراك، وبقيت نائمة لأربعة أيام كاملة.
وبعد مرور 3 سنوات من الحادثة الأولى، تم اكتشاف مرض النوم العميق على مستوى واسع. بعد أن أطاح بثمانية أشخاص مختلفين من كالاتشي، التي يبلغ عدد سكانها 640 شخصاً. وبعد استيقاظهم بعد أيام لم يتذكروا شيئا مما حدث لهم.
لتنتشر حالات النوم بين سكان القرية بشكل أكبر. وأصبحوا يغطون في سباتهم واحدا تلو الآخر. وعندما يستيقظون تصاحبهم بعض الأعراض المذكورة آنفا.
هذا المرض لم يؤثر على البالغين فقط، بل شمل حتى الأطفال. إذ مع بداية عام 2014 نام مجموعة من الطلاب بشكل مفاجئ في فصول الدراسة. على إثر ذلك توقفت الحصص الدراسية بعد أن بدأ الأطفال يرون كوابيس وهلاوس. مثل ثلاجات تتدلى من أسقف الفصول الدراسية. وأحصنة مجنحة وديدان تأكل أيديهم.
إلى ذلك أيضا، لم يكن سكان القرية الكازاخستانية وحدهم من يعانون من هذا المرض. وإنما سجلت كذلك حالات الإصابة بالنوم العميق لزوار من خارج القرية، الذين تعافوا منه فور مغادرتهم لها. ناهيك عن الحيوانات التي لم تسلم من هذا المرض.
فشل العلماء وبداية المعتقدات
بعد انتشار خبر الوباء الغامض الذي ضرب قرية كالاتشي، فشل العلماء والأطباء في بادئ الأمر في تفسير ما يحدث وإظهار السبب الكامن وراء هذا السبات. وقد اختبروا المستويات المتزايدة من الإشعاع وأول أكسيد الكربون. والرادون وتراكم أملاح المعادن الثقيلة التي يمكن أن تكون سامة. واستبعدت الفحوصات وجود فيروس أو عدوى بكتيريا.
وللتعرف على أسباب ظاهرة النوم المفاجئ، أجرى العلماء أكثر من 20 ألف اختبار معملي وسريري. على الهواء والتربة والماء والغذاء والحيوانات ومواد البناء وعلى السكان أنفسهم. لكنهم لم يتوصوا إلى شيء ورجحوا أن السكان أصيبوا بالهستيريا الجماعية.
الخلل في المكان وليس في السكان
ازداد اللغز غموضا بسبب عدم وجود سبب وجيه. وفي ظل غياب حقائق علمية تفسر ما يحدث في القرية، اتجهت الأنظار نحو منجم يورانيوم مهجور يعود للحقبة السوفياتية. وقيل إنه لم يستخدم منذ مدة تزيد عن أربعين عاماً.
في تلك الحقبة كان المنجم موطنا لعمال المناجم الذين تم إرسالهم لاستخراج اليورانيوم المستخدم في تشغيل الأسلحة النووية السوفياتية ومحطات الطاقة. لكنه أضحى أطلالا مهجورة بعد إغلاقه.
وللتأكد من صحة هذه النظرية، ولأخذ عينات من التربة والمياه، قرر العلماء تصميم طائرة بدون طيار خاصة وخفضها إلى المنجم، بسبب خطر نزول شخص له. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، قامت وزارة الصحة الكازاخية بفحص أكثر من 7 آلاف منزل مجاور لهذه المناجم. لاعتقادها أن النفايات السامة من المنجم دفنت في التربة المحيطة. لكنها لم تعثر على أي آثار تسمم.
وعلى إثر ذلك، تم إخلاء قرية كالاتشي وإعادة توطين ساكنتها في القرى المجاورة، وتوفير منازل ووظائف جديدة لهم. وبحسب تقرير لـ”بي بي سي”، فإنه تم إخلاء أكثر من نصف سكان القرية، وسط مقاومة آخرين ورفضهم الخروج من بيوتهم وقريتهم.
اكتشاف لغز القرية النائمة كالاتشي
بعد أزيد من 700 يوم من التحليل والتحقيق، تم إيجاد تفسيرا لهذه الظاهرة. إذ خلص الباحثون أنه السبب يكمن بالفعل في مناجم اليورانيوم، حسب نائب رئيس الوزراء الكازاخستاني، بيرديبيك سابارباييف.
إلى ذلك أيضا، استنتج العلماء بعد تحليل نتائج الفحوصات الطبية لجميع السكان أن سبب هذا المرض هو التركيزات العالية لأول أكسيد الكربون والهيدروكربونات المنبعثة من المنجم في الهواء. في حين أوضحت الحكومة الكازاخستانية أنه رغم إغلاق مناجم اليورانيوم، ما زال مستوى أول أكسيد الكربون مرتفعا في هواء القرية مقارنة مع نسبة الأكسجين، وهذا هو السبب الحقيقي لنوبات نوم طويلة ومفاجئة.