في الساعات الأولى من الصباح الباكر، تتسلل أشعة الشمس عبر الستار، وتفوح رائحة القهوة لتجول وسط أروقة المنزل. ذلك المشروب الذي يهون عليك عبء الحياة وضجيجها اليومي. يحسن من مزاجك ويزيد من إنتاجيتك خلال اليوم، رشفة واحدة فقط قادرة على تحويلك من شخص خامِل إلى شخص نشيط. فما هي القصة الكاملة وراء أشهر مشروب عبر العالم “القهوة”؟ وما أنواعها وأهم مكوناتها الأساسية؟
أساطير القهوة … من إغراء شيطاني إلى أهم حبة عبر العالم
تأخذنا “أسطورة البن” إلى قرون قديمة على الهضبة الإثيوبية. حيث يقال، في قصة أولى، إنها اكتشفت هناك عن طريق راعي ماعز يُدعى “كالدي”. إذ في يوم من الأيام لاحظ تغيرا في قطيعه بعد تناولهم من شجرة توت فاتح موجودة بالغابة، وأصبحت نشيطة جدا إلى درجة أنها لم تستطع النوم ليلا.
قيل إن “كالدي” عند ملاحظته هذا الأمر، ذهب لإبلاغ رئيس الدير المحلي. الذي وجده هو الآخر يعاني من قلة النوم التي لحقت به بسبب تناوله لمشروب بالتوت. بعدها أخبروا القسيس الذي أصر على أن هذا التوت إغراء شيطاني وألقى به في النار لتفوح تلك الرائحة العطرة الفريدة من نوعها. وبعد فترة وجيزة سادت فكرة التوت المنشط في كل أرجاء إثيوبيا.
تقول الأسطورة الثانية إن الصوفي اليمني غثول أكبر نور الدين أبو الحسن الشاذلي، الذي كان في رحلة بإثيوبيا، لاحظ حركة غير اعتيادية للطيور التي كانت تأكل من توت في الغابة. ليقرر هو الآخر تجريبها لتظهر عليه نفس الطاقة النشيطة.
وتتعدد الأساطير والقصص التي انتشرت عن كيفية اكتشاف القهوة. والتي أصبحت من حبة منسية في أشجار الغابة إلى أهمها عبر أرجاء العالم.
ويعود بنا تاريخ انتشار القهوة إلى القرن الخامس عشر بجنوب الجزيرة العربية. إذ تظهر في تلك الفترة أولى الدلائل التاريخية على شربها هناك. وفي القرن السادس عشر وصلت إلا بلاد فارس ومصر، سوريا وتركيا.
ولم يقتصر الناس على شرب القهوة في منازلهم فقطـ، بل تم إنشاء مقاهي يطلق عليها اسم “Qahveh- Khaneh” بكل من مدن الشرق الأدنى والتي تردد عليها الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية.
كيف اجتاحت القهوة القارة العجوز ثم العالم
كان الشرق الأوسط نقطة الوصل التي انتشرت من خلالها القهوة إلى بلدان أوروبا ومنها إيطاليا وتحديدا البندقية سنة 1615. لكن، ورغم خوف الناس وترددهم في البداية من استهلاكها، خاصة عندما أدينت من طرف رجال الدين. وافق البابا عليها بعد تجربتها لتنتشر في كل أرجاء أوروبا.
وجاء التسلسل الزمني لانتشار القهوة في أوروبا كالتالي:
- سنة 1645: افتتاح اول مقهى بإيطاليا.
- سنة 1652: افتتاح اول مقهى بإنجلترا.
- سنة 1672: افتتاح أول مقهى بباريس.
- سنة 1683: بعد معركة فيينا، ظهرت أول مقاهي حقيقية فيها، افتتحت أولها على يد “فرانز جورج كولشيتسكي”.
- سنة 1690: قام الهولنديون بتنظيم عملية تهريب نبات القهوة من ميناء المخاء العربي الذي يعتبر السوق الرئيسي لتصدير القهوة.
- سنة 1721: تم افتتاح أول مقهى بمدينة برلين الألمانية.
وفي بداية القرن العشرين، اتخذت القهوة مسارا جديدا وانتشرت بشكل مهول. إذ أصبحت هذه الأخيرة طقسا ضروريا بمعظم دول العالم. وصارت عادة احتساء فنجان من القهوة شيئا سائدا خاصة في ألمانيا، وهو الأمر الذي ساهمت فيه اختراعات آلات وتركيبات كيميائية مختلفة:
- سنة 1901: اختراع أول قهوة سريعة الذوبان من طرف الكيميائي الياباني الأمريكي ساتوري كاتو.
- سنة 1903: تم اختراع أول قهوة خالية من الكافيين تحت اسم “سانكا Sanka” من طرف مستورد القهوة الألماني “لودفيج روسيليوس”.
- سنة 1906: اختراع أول قهوة فورية منتجة بكميات كبيرة من طرف الكيميائي الإنجليزي “جورج كونستانت لويس واشنطن”.
- سنة 1920: ارتفاع كبير في مبيعات البن مع بدء الحظر في الولايات المتحدة الأمريكية.
- سنة 1938: أطلقت شركة “Nestlé” العالمية قهوة مجففة قابلة للذوبان تحمل اسم “Nescafé” والتي حققت إيرادات عالية منذ إطلاقها.
- سنة 1940: استوردت الولايات المتحدة الأمريكية 70 % من محصول البن العالمي.
- سنة 1948: أسس “Achille Gaggia” بالتعاون مع رجل الأعمال “Carlo Ernesto Valente”، آلة إسبريسو بتقنيات جديدة متطورة. وحققت نجاحا كبيرا وانتشارا فائقا لقهوة الإسبريسو بآلة “Gaggia”.
- سنة 1971: افتتح أول متجر للعلامة التجارية العالمية “ستاربكس Starbucks” بالسوق التاريخي “بليس بايك” في سياتل.
من حبوب بن متنوعة إلى أنواع قهوة مختلفة
ومرت القهوة على مر عصور قديمة بتغيرات عدة جعلتها تنتقل من بذرة منسية على شجرة عادية إلى منتوج تُحظَر منه ما يقارب 2.25 مليار كوب من القهوة يومياً في جميع أنحاء العالم. كل منها بنوع مختلف عن الآخر. يختلف تركيزها من مرة إلى خفيفة إلى سريعة الذوبان. لكن، وقبل الحديث عن أنواع القهوة، يجب أن نتطرق لأنواع حبوب البن.
على خط الاستواء، تزرع معظم نباتات البن حول ما يطلق عليه المزارعون “حزام الفاصوليا”. وهي منطقة تدعى بموطن البن. وتتربع على عرشها عواصم القهوة عبر العالم التي توفر لها الظروف الملائمة للنمو بشكل مثالي ومزدهر. نذكر منها: إثيوبيا، البرازيل، فيتنام، كولومبيا وإندونيسيا.
حبوب البن أرابيكا Arabica
تعتبر حبوب البن أرابيكا من بين أكثر الأنواع شيوعاً. إذ تتميز بنكهاتها الحيوية والحلوة مع طعم من الحموضة. كما أنها لا تحتوي على كمية كبيرة من الكافيين. ويقال أن أرابيكا هي أول نوع من حبوب البن التي نمت على الإطلاق. والذي يعود تاريخها إلى 1000 سنة قبل الميلاد.
وتتطلب زراعتها ظروفا أكثر تعقيدا تتعلق خاصة بالمناخ وارتفاع الأرض. وعادة ما تزرع على ارتفاعات تتراوح بين 500 متر و2500 متر بأراضي أمريكا اللاتينية. وتحديدا البرازيل التي تعتبر حاليا أكبر منتج لقهوة “أرابيكا”.
حبوب البن روبوستا Robusta
على عكس مذاق حبوب البن أرابيكا، تتميز حبوب بن روبوستا بطعم أقل حلاوة. إذ تحتوي على نغمات من الخشب والمطاط المحترق. روبوستا هي الخيار التي يلجأ إليها محبو الإسبريسو نظرا لطبقة الكريما التي تعطيها. كما أنها تحتوي على نسبة أعلى من الكافيين بالمقارنة مع أرابيكا.
ولا تتطلب روبوستا ظروفا معينة استثنائية من أجل زراعتها، وهذا وراء كونها الأرخص في المتوسط من الأرابيكا. كما أنها تزرع على ارتفاعات لا تزيد عن 1000 متر وتنمو بسرعة كبيرة. ومن بين المناطق المعروفة بزراعة وإنتاج الروبوستا نجد مناطق متعددة عبر إفريقيا، فيتنام وإندونيسيا.
وعند التطرق إلى أنواع القهوة، نجد خاصة ما يلي:
الإسبريسو Espresso
قهوة الإسبريسو، هي أحد أنواع القهوة الشائعة عبر العالم، تنفرد بلذتها وتركيزها العالي. حيث تقدم على شكل جرعات صغيرة عالية التركيز. ويرجع تاريخ اكتشاف الإسبريسو إلى 100 عام بإيطاليا عن طريق رجل إيطالي الأصل يُدعى “لويجي بيزيرا”. حيث يعتبر أول من قدم براءة اختراع أول آلة قهوة خاصة بالإسبريسو سنة 1901. والتي أطلق عليها في الأصل اسم “Tipo gigante con doppio rubinetto”.
وتعمل هذه الآلة على تخمير القهوة بطريقة الضغط، وبالتالي تعطينا فنجان قهوة قوي الطعم. لهذا أسماها البعض ب “القهوة المضغوطة”.
وتتكون قهوة الإسبريسو من مكونين رئيسيين فقط. 100% من القهوة المطحونة بشكل ناعم، وماء ساخن. كما أن هذا النوع بمثابة قاعدة أساسية لعديد من مشروبات القهوة الأخرى ككابوتشينو، لاتيه، وأميريكانو.
لاتيه Latte
يقال إن قهوة لاتيه ظهرت في أمريكا، وهي أيضا تحظى بشعبية كبيرة إلى جانب الإسبريسو. يتميز لاتيه برغوته التي تطفو على سطح الفنجان. وتتكون من جرعة إلى جرعتين من الإسبريسو والحليب المطهو على البخارـ إذ بمجرد خلطهما يخلقان طعما فريدا ومتميزا.
كابوتشينو Cappuccino
اكتشف كابوتشينو أول مرة بأوروبا وأمريكا سنة 1980. ويتشارك مع لاتيه في الشعبية الكبيرة خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية، لكنهما يختلفان في المكونات. إذ على عكس لاتيه يتكون كابوتشينو من جرعات متساوية من الحليب والإسبريسو، التي تعتبر قاعدة مهمة لمجمل أنواع القهوة. ويُقدم كابوتشينو في فنجان كبير تكسوه الرغوة على سطحه مع رشة خفيفة من غبار شوكولاتة. ويتميز بطعمه الحلو مع نكهة قوية للإسبريسو.
أميريكانو Americano
يرجع تاريخ قهوة أميركانو إلى الحرب العالمية الثانية. إذ لم يهتم آنذاك الجنود الأمريكيون المتمركزون في إيطاليا بقهوة الإسبريسو. حيث كان طعمها قويا جدا بالنسبة لهم رغم شهرتها الكبيرة بالبلاد. لذلك التجأوا إلى صنع قهوتهم بنفسهم، من خلال إعدادها عن طريق التنقيط. وكانوا يقومون بإضافة الماء لجرعة الإسبريسو القوية ليحصلوا في الأخير على قهوة خفيفة يفضلها العديد من سكان أمريكا.
كورتادو Cortado
انتشرت قهوة كورتادو في السنوات القليلة الماضية تحديداً بالبرتغال وأمريكا اللاتينية. وتحضر قهوة كورتادو من كميات متساوية من الحليب المطهو على البخار والذي يخلق رغوة خفيفة بالإضافة إلى الإسبريسو.
لا شك أن عدد أنواع القهوة لا يُعد ولا تُحصى، إذ إلى جانب الأنواع المذكورة أعلاه، يمكن أن نذكر أيضا قهوة ريستريتو و دوبيو، القهوة العربية …
- قد يهمك أيضا: القصة وراء تحضير كوبي لواك … أغلى قهوة في العالم
هل من فوائد لمشروب القهوة؟
لطالما شكلت القهوة مركز عدة دراسات لعلماء وباحثين، بين من خلالها أنها ليست مجرد مشروب يساعدنا على الاستيقاظ في الصباح أو الحفاظ على مزاجنا خلال اليوم. بل اتضح أنه لها منافع وفوائد صحية متعددة يمكن تلخيصها فيما يلي:
تحسين الصحة العامة ورفع مستوى الطاقة
اتضح للعلماء بعد دراسات متعددة أن معظم الأشخاص الذين يشربون القهوة باستمرار يتمتعون بمزايا صحية عامة أكثر من أولئك الذي لا يحتسونها. حيث أكدت الدراسات أن شاربي القهوة هم أقل عرضة للوفاة بشكل مبكر من دون أي سبب. كما أنهم أقل عرضة للإصابة بالسرطان، عكس الذين لا يشربونها.
كما تلعب القهوة دورا مهما في محاربة التعب وتحفيز ورفع مستويات الطاقة اليومية للشخص. وهذا لاحتوائها على نسبة مهمة من الكافيين الذي يعتبر منبهاً للجهاز العصبي المركزي.
خفض خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني
أشارت دراسة قام باحثون في جامعة هارفارد نُشرت في مجلة Diabetologica سنة 2014، إلى أن الأشخاص الذين زادوا من تناول القهوة بأكثر من كوب في اليوم على مدى أربع سنوات، كان لديهم خطر أقل بنسبة 11% للإصابة بمرض السكري من النوع 2. أما أولئك الذين قللوا من تناول كوب واحد يوميًا، كانوا أكثر عرضة للإصابة بالمرض بنسبة 17%.
واستنتجت الدراسة أن تناول القهوة بانتظام يمكن أن يساهم بانخفاض خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني على المدى البعيد. وهذا مرتبط بقدرة القهوة على الحفاظ على وظيفة خلايا بيتا في البنكرياس، المسؤولة عن إنتاج الأنسولين لتنظيم مستويات السكر في الدم.
دعم صحة الدماغ والتحكم في الوزن
أفادت عدة أبحاث على أن القهوة تساعد في الحماية من بعض الاضطرابات العصبية. بما في ذلك مرض الزهايمر ومرض باركنسون. فيما أظهرت دراسات أخرى أن الاستهلاك المعتدل للقهوة يمكن أن يرتبط بانخفاض خطر الإصابة بالخرف والتدهور المعرفي.
كما تساهم القهوة في تغيير تخزين الدهون بالجسم وتدعم صحة الأمعاء. وكلاهما يعتبران عاملين أساسيين في إدارة الوزن. وحسب عدة دراسات، دائما ما ارتبطت القهوة بانخفاض نسبة الدهون بجسم الرجال والنساء.
هل من أضرار للقهوة؟
على الرغم من أن العديد من الدراسات العلمية والطبية توصي بتناول القهوة لما تتميز به من فوائد صحية متعددة. إلا أن هذا لا يعني أن تناولها ليس له أي أعراض جانبية.
إذ ينصح الأطباء بالتحكم في استهلاك القهوة بعناية كبيرة. كي لا يصبح تناولها إدماناً مع مرور الوقت. كما أن العديد من الأطباء أكدوا على أثارها السلبية على النساء في فترة الحمل. فيما ينصح البعض الآخر بتناولها بعقلانية خاصة في الفترة المسائية. إذ قد تتسبب الأرق في المستقبل.