في استمرارية لتغطيتنا لتاريخ المدن المغربية وبعد تقريرنا السابق حول مدن المغرب الامبراطورية، والذي تطرقنا فيه إلى سبب تسميتها. وتاريخ وأهم الأحداث التي مرت بها. حان الوقت لنخوض في خبايا أكبر مدن المغرب وعاصمته الاقتصادية الدار البيضاء.
الدار البيضاء … تاريخ المدينة التي لا تنام
الدار البيضاء أو المدينة الغريبة كما يطلق عليها البعض. استمدت غرابتها أيضا من تاريخها، إذ لم يستطع المؤرخون تحديد المؤسس الأصلي لها. إذ يقول البعض أنها أسست على يد الرومان، فيما يقول البعض الآخر على يد الفينيقيين وأو الزناتيين.
ويعود تاريخ الدار البيضاء إلى آلاف السنين قبل الميلاد. اذ اكتشف علماء الآثار وجود آثار للعنصر البشري يعود عمرها إلى خمسين ألف سنة على الأقل.
سميت الدار البيضاء سابقا ب “أنفا”. إذ كانت مدينة صغيرة مفتوحة على المعاملات البحرية مع الخارج في عهد المرينيين. أما الفينيقيون فقد جعلوا منها محطة توقف في الطريق المؤدية إلى الصويرة. أما الإسبان والبرتغاليون فدمروها بالكامل بعد استيلائهم عليها.
في عهد العلويين، عرفت الدا البيضاء ازدهارا كبيرا. إذ أعادوا بناءها خلال حكم السلطان سيدي محمد بن عبد الله 1757-1790، ليتم تشييدها تحت اسم “الدار البيضاء”. وأصبحت المدينة قبلة للعديد من القبائل المغربية، كقبائل “الشاوية” و”دكالة”. لتتحول إلى مدينة تجذب التجار والحرفيين من كل أنحاء المغرب.
سبب التسمية والموقع الاستراتيجي
حظيت مدينة الدار البيضاء بعدة أسماء ك “أنفا”، و “Casa branca” التي أطلقها عليها البرتغاليون عند اكتشافهم لبيت أبيض بها في أواخر القرن 16. فيما اختار الإسبان تسميتها باسم قريب من الاسم البرتغالي “Casa blanca”. أما العلويون فقد أسموها رسميا بالدار البيضاء، قبل أن يتداول المغاربة إلى يومنا اسم “كازا”.
وتتميز مدينة الدار البيضاء بموقع جغرافي استراتيجي. إذ تقع على ساحل المحيط الأطلسي، لتتوسط شرقا هضبة بن سليمان، وفي الجنوب والغرب تتواجد سهول منطقة الشاوية. كما أن إطلالتها على المحيط الأطلسي تمتد على ما يقارب خمسين كيلومترا.
وتمتد مساحة المدينة حاليا إلى 219 كيلومتر مربع، فيما يصل عدد سكانها إلى ما يقارب 6 ملايين وأربعمائة ألف نسمة حسب آخر إحصائيات قامت بها المندوبية السامية للتخطيط. مما يجعلها أكبر المدن بالمغرب من ناحية عدد السكان.
ازدهار مدينة الدار البيضاء
ازدهار الدار البيضاء كان راجعا بالأساس للمناطق الزراعية المحيطة بها. كما أن لمينائها الشهير دور مهم في هذا الازدهار أيضا. واختيرت الدار البيضاء كعاصمة اقتصادية للمملكة المغربية. إذ من خلال موقعها كانت ولازالت تستقطب المستثمرين والتجار والعمال من جميع أنحاء العالم.
تم بناء ميناء الدار البيضاء سنة 1912، ليكون أول ميناء كبير وحديث للتصدير بالمغرب. ليصبح بعد الحرب العالمية الثانية موقعا استراتيجيا تمر من خلاله الصفقات العالمية الكبرى.
وخلال سنة 1943، فتحت الدار البيضاء أبوابها في وجه أشهر الدبلوماسيين في العالم ك “وينستون تشيرشل”، “فراكلين روزفلت” و “تشارل ديغور”، الذين شاركوا ب “مؤتمر أنفا” والذي استمر لمدة عشرة أيام.
وساهم هذا التجمع في تعزيز التنمية الاقتصادية عن طريق جذب العديد من الاستثمارات المحلية والأجنبية والذي ساهم في حصول الدار البيضاء على لقب العاصمة الاقتصادية.
المعالم التاريخية لمدينة الدار البيضاء
تتمتع الدار البيضاء منذ القدم بتراث معماري عريق. إذ بمجرد حلولكم بها تنصدمون من المزيج المعماري الذي يجمع ما بين التراث القديم الأصيل والتراث الحديث.
عند التحدث عن الدار البيضاء أول ما يخطر على بالنا هو ناطحات سحابها المشهورة “Twin center”. لكن بالرغم من شهرتها إلا أن هناك آثار تاريخية أخرى أهم وتعبر عن عمق تاريخ المدينة.
محكمة الباشا
نستهل ب “محكمة الباشا” التي تم تشييدها من طرف باشا الدار البيضاء آنذاك محمد المقري، في فترة ما بين الحربين العالميتين. وتحديدا سنة 1930.
محكمة إدارية إسلامية بحي الحبوس الشهير، يطغى عليها الطابع المغربي الأصيل. إذ هي بمثابة رياض كبير تبلغ مساحتها ستة آلاف متر مربع، تتكون من فناء كبير يتوسط الرياض. إلى جانبه فناءان آخران بأرضية من خشب الأرز، وأسقف بالقرمود الأخضر.
إلى جانب مساحتها الكبيرة، تضم المحكمة أسقفا عالية تتخللها زخرفة الفسيفساء الغنية عن التعريف. والتي ينبهر الزوار بجمالها. كما تضم نحو 60 غرفة، لأنها كانت في القدم إقامة خاصة بالباشا، أما حاليا فهي قبلة تاريخية للزوار من كل أنحاء العالم.
حي الأحباس
ليس بعيدا عن القصر الملكي بالدار البيضاء، يتواجد حي الأحباس أو الحبوس كما يطلق عليه المغاربة. والذي يعود تاريخ تأسيسه لسنة 1917 عندما كان المغرب آنذاك تحت الحماية الفرنسية.
طبق المهندسون المعماريون معالم وقواعد التمدن الحديث على حي الأحباس، مع مراعاة النمط التقليدي. أزقة ضيقة تلك التي تتواجد في هذا الحي ذات طابع تقليدي مغربي. مع ممرات مزينة بالحجر والتي تعطي هذا الحي لمسة ساحرة.
يتواجد بحي الأحباس محلات لنخبة من الحرفيين المغاربة الذين لا زالوا إلى يومنا هذا يعملون بالصناعة التقليدية التي يتهافت عليها السياح. كما يتم بيع كل ما يتعلق بالتقاليد المغربية الأصيلة من ملابس: القفطان المغربي، الكندورة، الشربيل … ومجوهرات الفضة الغنية عن التعريف. فيما يتاجر البعض الآخر في حقائب الجلد الطبيعي الأصلي كما هو الحال في عدة مدن مغربية كفاس، والصويرة.
في حي الأحباس أيضا توجد عدة مكتبات تابعة لأشهر دور النشر كمكتبة دار الكتاب التي تشمل على عدة مراجع ثقافية وتاريخية.
وليس بعيدا عن هذه المكتبة نجد المسجد المحمدي الذي أمر بتأسيسه السلطان محمد بن يوسف سنة 1355 هجرية. والذي سمي نسبة له. مسجد ذو طابع أندلسي مغربي تبلغ مساحته 4500 متر مربع. يتكون من سبعة أبواب في واجهاته الثلاث، أما بالنسبة لقاعة الصلاة فتضم عددا هائلا من الأعمدة تصل إلى 60 عمودا، فيما تتوسط القاعة ثريات كثيرة يبلغ وزتها أزيد من 3 أطنان.
درب عمر
تعد منطقة درب عمر القلب النابض للاقتصاد المغربي، وهي من أكبر مراكز المغرب للبيع بالجملة. يحتل موقعا استراتيجيا مهما نظرا لقربه من ميناء الدار البيضاء. إذ يتوافد عليه البائعون من كل مناطق المغرب من أجل شراء المواد الغذائية والمنسوجات.
يمتدر درب عمر على مساحة كبيرة تقدر ب 40 هكتارا، كما تتواجد به أكبر المحلات التجارية المختصة في بيع الأثواب ذات الجودة العالية.
مسجد الحسن الثاني
نختم لائحتنا بمسجد الحسن الثاني الذي يعد الذي يعد أحد معالم الدار البيضاء المبهرة، وأحد أكبر المساجد عبر العالم.
تم تدشين مسجد الحسن الثاني في 30 غشت سنة 1993، على يد الملك الراحل الحسن الثاني. ويمتد على مساحة تقدر بتسع هكتارات. حيث استغرقت أعمال بنائه وترميمه سبعة أعوام متتالية.
للمسجد إطلالة ساحرة على البحر وغير مسبوقة. يتكون من قاعة مهيبة تتسع ل 105 ألف مصلي. فيما تعلوها سبعون قبة مغطاة بالقراميد الخضراء الزمردية.
تتزين مئذنة مسجد الحسن الثاني بطابع أندلسي. كما أن جدرانه مطلية بتقنية خاصة وتم تزيينها بالزليج والخشب المصبوغ والمنحوت، مما يجعله لوحة فنية تخطف أنظار العالم.