لطالما كانت المملكة المغربية محط إعجاب العديد من الناس. فهي مملكة تجمع ما بين الماضي والحاضر، التاريخ والعصرنة، الحضارة العربية الإسلامية والثقافات المختلفة… كما أن العديدين يطلقون عليها اسم أرض السلام والتسامح والعراقة والانفتاح.
يعتبر المغرب نموذجا تاريخيا مثاليا، إذ شهد على مر العصور على موجات متعددة من الثقافات والمكتسبات التاريخية المعترف بها دوليا من طرف اليونسكو. وهذا ما جعل أنظار الجميع تتجه نحوه، إذ أصبح وجهة عالمية مفضلة للسياح الأجانب. وذلك لتوفره على تنوع طبيعي كبير من جبال وبحار وغابات وصحراء.
يتميز المغرب بتاريخ عريق وتعدد السلالات التي مرت به على مدى قرون. وفي هذا الصدد سنتعرف على المدن المغربية بدءا بالمدن الامبراطورية. فما هي المدن الامبراطورية؟ ما هو تاريخ تأسيسها؟ ولماذا سميت بالمدن الإمبراطورية؟
ما هي المدن الامبراطورية المغربية؟
يتعلق الأمر بمدن فاس ومراكش ومكناس والرباط، والتي حظيت بلقب المدن الامبراطورية أو عواصم المغرب التاريخية. وذلك لكونها شكلت في وقت ما عاصمة لحكم كل من الأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين والسعديي والعلوين. أسسوا هذه المدن وجعلوا منها عاصمة لدولهم وتركوا بصمة عمرانية وعسكرية فيها وتاريخا يمتد لسنين طويلة، ليجعل من المغرب دولة عريقة، تضرب بجذورها عمق التاريخ البشري.
مدينة فاس … عاصمة العلم والعلماء
تأسست مدينة فاس أو كما يطلق عليها اسم عاصمة “العلم والعلماء”، على يد حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم إدريس الأول سنة 789 ميلادية. وبعد اغتياله تولت زوجته “كنزة الأوربية” الحكم لمدة 11سنة. ثم انتقل الحكم لابنه المولى إدريس الثاني الذي تمت مبايعته من طرف نفس القبائل الأمازيغية التي بايعت أباه.
شيد إدريس الأول أسوار مدينة فاس سنة 809 ميلادية وجعلها عاصمة للأدارسة بعد وليلي في عهد أبيه. وحسب موقع المكتب الوطني المغربي للسياحة، فإن الأدارسة اختاروا مدينة فاس بعناية دقيقة، ورؤية ذكية للمستقبل.
موقعها الجغرافي
تتميز مدينة فاس بموقع جغرافي مميز، إذ تتمركز في شمال وسط المملكة. هذا ما جعلها محور ربط بين شمال المغرب وجنوبه وبين شرقه وغربه. كما أنها واسطة ما بين التلال المحيطة بها من كل الجهات والغابات التي تحتوي على شجر البلوط والأرز.
قربها من عدة ينابيع مائية ساهم في اختيار الأدارسة لها. وتقرب فاس لما يقارب من 60 منبعا مائيا كسايس المعروفة بجوف واديها الغزير، وهذا ما ساعد في جعلها ملتقى اقتصادي وسياسي واستراتيجي.
تبلغ مساحة فاس حاليا حوالي 500 كيلومتر مربع، ويصل عدد سكانها إلى 088 146 1 نسمة، حسب آخر إحصائيات قامت بها المندوبية السامية للتخطيط. وعرفت المدينة على مر العصور بجمالية معمارها وأسوار مدينتها العتيقة إذ صنفت من بين إحدى أكبر المدن العتيقة بالمغرب.
ازدهار مدينة فاس في عهد الأدارسة
تحظى فاس منذ القرون الوسطى برقي وعظمة مميزين، إذ عرفت إزدهارا كبير تحت حكم الأدارسة الذي استمر في الفترة ما بين 807 إلى 926 ميلادية. ورغم انقسامها لضفتين (عدوة القرويين/ عدوة الأندلس) شهدت توسعا معماريا ونموا تجاريا وديموغرافيا ملحوظا خاصة بعد سنة 857 ميلادية والتي يصفها البعض ببداية العصر الذهبي للمدينة.
إذ أسست فاطمة الفهرية أندلسية الأصل جامع القرويين سنة 859 ميلادية، والذي يعتبر من بين أقدم الجامعات في العالم. كما يعتبر أيضا القلب النابض للمدينة، وسمي ب”القرويين” نسبة للحي الذي كان يعيش فيه اللاجئون من القيروان. ومن بين العلوم الأساسية التي كانت تدرس بالقرويين العلوم الإسلامية من النحو والشريعة وأصول الدين.
ومن أهم أحداث الحقبة الذهبية أيضا تأسيس جامع الأندلس أو الأندلسيين في سنة 860 ميلادية، من طرف مريم الفهرية أخت فاطمة الفهرية. وهما اللتان استثمرتا إرث أبيهما في بناء هذا الموروث الإسلامي والعلمي. ويقع مسجد الأندلس في الضفة الأخرى المسماة “عدوة الأندلس”. إذ كان منبعا للفكر الديني ووجهة أساسية لكل من يريد أن يفقه في العلم الإسلامي. وكاد هذا الجامع أن يصبح مركزا للفقه المالكي نظرا لما يقوم به علماء المذهب من نشاط تعليمي في ذلك الوقت، استنادا لمقال نشرته وزارة الأوقاف عبر موقعها الرسمي.
يتميز جامع الأندلس بهندسة معمارية تاريخية. إذ أبدع الحرفيون في تشييده وجعله من أبرز المآثر التاريخية والدينية، ومنارة روحية مهمة منذ الحقبة الأولى لدخول الإسلام لشمال إفريقيا إلى يومنا هذا. وينطبق نفس الشيء على جامع القرويين.
فاس أولى المدن الامبراطورية في المغرب
يعتبر الأدارسة من بين أولى السلالات الملكية التي حكمت المغرب والتي ساهمت في نشر الدين الإسلامي الذي ساد في جميع أنحاء المغرب الكبير.
وليس الأدارسة فقط من اتخذوا فاس عاصمة لهم، فكذلك المرينيون الذين انتقلوا إليها بعد الاستيلاء على جنوب المغرب والإطاحة بالموحدين سنة 1269 ميلادية، واتخذوها عاصمة لهم. وبنوا مدينة جديدة تحت اسم “فاس الجديد” على غرار المدينة القديمة “فاس البالي” في عهد الأدارسة.
وبمجرد رجوعها كعاصمة في عهد المرينين، أصبحت المدينة محط إعجاب الجميع، وتوافد عليها المهاجرون الأندلسيون المسلمون واليهود الذين اتخذوها ملجأ لهم وشيدوا حيا أطلقوا عليه اسم “حي الملاح”.
مراكش … المدينة الحمراء
يرجع بناء النواة الأولى لمدينة مراكش إلى عام 1062 ميلادية على يد المرابطين. وتطورت تحت حكم السلطان يوسف بن تاشفين الذي استمر حكمه حتى 1107 ميلادية. وأصبحت مراكش عاصمة لأقوى الامبراطوريات التي مرت عبر تاريخ المغرب. مما جعلها مركزا سياسيا، اقتصاديا وجغرافيا مهما في بلدان الغرب الإسلامية المسيطرة على إفريقيا الشمالية والأندلس آنذاك.
أسس المرابطون مراكش وجعلوا منها ثاني الحواضر الامبراطورية في المغرب، بعد مدينة فاس. وفرض المرابطون وهم سلالة أمازيغية يعود أصلها إلى مجموعة من الرحل الصحراويين، سيطرتهم من الأندلس إلى حدود السودان.
وتمتد مراكش أو ما يسميها البعض بالمدينة الحمراء على مساحة تقدر ب 230 كيلومتر مربع. ويبلغ عدد سكانها حاليا 005 323 1 نسمة. حيث تصنف ثالث أكبر المدن من ناحية السكان في المغرب. وتقع على مقربة من جبال الأطلس الشامخة التي تعلوها الثلوج عند فصل الشتاء، وأيضا وديان نفيس وأوريكا من الجهة الأخرى.
فور وصولك لمراكش ستخطف انتباهك، الأزقة الضيقة التي تتخللها أشعة الشمس، والحدائق التي تحتوي على باقات من النخيل، والاختلاف الملفت في الألوان، وقصور ذات معمار أصيل.
جمالية مراكش الحمراء وعراقة تاريخها وأيضا اختلاف معمارها، جعلها وجهة عالمية مفضلة لدى الأجانب. إذ تتوفر على معالم تاريخية وأثرية معروفة كمسجد الكتبية الذي تم تشييده في عهد المرابطين، وضريح السعديين، وجامع الفنا الذي كان ساحة تجارية في عهد المرابطين. هذا ما جعل منظمة اليونيسكو تعتبرها تراثا شفويا إنسانيا.
مراكش ثاني المدن الامبراطورية
أعلن الموحدون الحرب على المرابطين بأمر من المهدي بن تومرت، الذي كان المعارض الأول للمذهب المالكي الذي يتبعه المرابطون. وانتصر الموحدون في هذه الحرب وتولوا حكم الامبراطورية المغربية، وبلاد الأندلس سنة 1147 ميلادية. إذ ساهموا في توسيع رسالة التوحيد، وأعادوا ترميم جامع الكتبية الذي كان بمثابة نموذج لمهندسي جيرالدا في إشبيلية.
وانتهى حكم الموحدين سنة 1269 ميلادية لتسقط مراكش كعاصمة وينتقل الحكم للمرينيين المشار لهم أعلاه، الذين اتخذوا فاس عاصمة لهم.
شهدت سنة 1554 صراعا على السلطة ما بين السعديين والمرينيين، والتي انتصر فيها السعديون وجعلوا من فاس عاصمة مؤقتة ثم انتقلوا إلى مراكش التي استرجعت هذه الأخيرة لقبها ومركزها.
عرف المغرب وتحديدا مراكش ازدهارا ومجدا في عهد السعديين. حيث ساهموا في ثراء البلاد بجلب الذهب من السودان، وبناء العديد من القصور والمعالم الأثرية أهمها قصر البديع، ومدرسة بن يوسف التي تعتبر جامعة قرآنية جذبت العديد من كل أنحاء العالم، ومقبرة السعديين وهي مقبرة ملكية كبيرة خصصت لدفن الشخصيات المهمة من السلالة.
مكناس العاصمة الاسماعيلية
يرجع تأسيس مدينة مكناس، ثالث المدن الامبراطورية، لسنة 711 ميلادية على يد قبيلة “زنات مكناسة” شرقية الأصل. والتي استقرت بالمنطقة بسبب اعجابها الشديد بتربتها الخصبة وينابيع المياه المحيطة بها. حظيت مكناس باهتمام السلالات السابقة الذكر، إذ شهدت ازدهارا في حقبة المرابطين والموحدين والمرينيين ولكن لم يتخذوها عاصمة لهم. وبالرغم من ذلك فقد ساهموا بشكل كبير في بناء أسوارها وتشييد المساجد، وكذا تزويدها بالماء بواسطة نظام متطور انطلاقا من عين “تاكما”. كما استقر بها مجموعة كبيرة من الأندلسيين بعد سقوط أهم مراكز الأندلس.
وتعتبر مكناس حاليا سادس أكبر مدينة في المملكة المغربية. إذ تمتد على مساحة 370 كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها ل 827 479 نسمة. كما حظيت بموقع جغرافي استراتيجي، فهي تتوسط جبال الريف وجبال الأطلس الغربي الأوسط، مما جعلها تزخر بإمكانات زراعية مهمة لتوفرها على أشكال جغرافية متنوعة كالجبال والهضاب والسهول.
وتمتاز مكناس بخصبة أرضها إذ تحيط بها أراضي زراعية من كل الجهات، هذا ما يجعلها تتصنف من بين أكثر المدن إنتاجا للمحاصيل الزراعية. كالكروم والزيتون وأيضا العنب ذو الجودة العالية والذي يتم تصديره إلى أوربا حسب ما نشره الموقع الرسمي لجماعة مكناس.
مكناس أول إنجازات العلويين العظيمة
بعد طرد السعديين من طرف العلويين، وهم سلالة أتت من الحجاز لتستقر بتافيلالت، استولوا على سلطة الحكم بقيادة مولاي رشيد وهو ثالث أمير علوي بتافيلالت. هذا الأخير أعاد توحيد البلاد من سنة 1664 ميلادية إلى 1669 ميلادية وجعل من فاس عاصمة علوية للمغرب.
ويعدما انتقل الحكم لابنه السلطان مولاي إسماعيل استعادت مكناس لقبها كعاصمة للدولة. وشهدت هذه الأخيرة إبان حكمه أزهى فترات تاريخها، إذ شيدها على الطراز الإسباني المغربي. وتعتبر مكناس كما تسمى بالعاصمة الإسماعيلية أول مدينة ينسجم فيها الطابع الإسلامي والأوروبي.
وتعد مكناس ثالث المدن الامبراطورية في المغرب أول إنجاز عظيم للسلالة العلوية. وتم بناء العديد من القصور التاريخية المبهرة فيها، ودار المخزن التي تضم أقواس رائعة مفتوحة على الهواء الطلق. كما تم بناء ضريح السلطان مولاي إسماعيل الذي يجسد عظمة السلطان المرحوم. بني سنة 1703 ويعتبر من المآثر الإسلامية النادرة. ويحتوي على سلسلة من الغرف المزخرفة، فناء مزين بالفسيفساء والنافورات المنحوتة من الرخام، وكذلك الأرضية المزينة بالسجادات الجميلة.
في عهد السلطان مولاي إسماعيل تم تشييد العديد من الحدائق واسطبلات الخيول وأيضا وصهريج لتزويد الأحياء بالماء. يحيط بالعاصمة الاسماعيلية أسوار ضخمة تمتد حوالي 40 كيلومترا، تتخللها أبراج عمرانية ضخمة، ومزودة بأبواب تاريخية كباب المنصور وباب درعين. مما جعل هذه المدينة تسمى بعاصمة الأبواب الجميلة.
الرباط … مدينة الأنوار المغربية
مدينة الرباط أو الأنوار، العاصمة الثقافية للمملكة المغربية. قبلة مسلمي و يهود الأندلس، جامعة الحضارات وحاضنة الديانات. باتت عتيتا أبيا حتى رفعت في سماها رمز الحب و التآخي، لتصنف به تراثا عالميا للإنسانية، من قبل منظمة اليونسكو العالمية.
اكتشفت المدينة من طرف الرومان في القرن الثامن الذين أطلقوا عليها اسما باللاتينية “SALA“. وأنشأوا ميناء نهريا اختفى مع نهاية حكمهم. قبل أن تشيد مدينة الرباط سنة 1150 ميلادية من قبل الدولة الموحدية على يد الخليفة يعقوب المنصور الموحدي. بعدما كان المرابطون قد باشروا في تأسيس رباط حصين، لدوافع أمنية.
وتعتبر الرباط حاليا ثالث أكبر مدينة في المغرب من حيث المساحة، والتي تبلغ حوالي 118.5 كيلومتر مربع. و تضم 717 572 نسمة حسب آخر إحصيائيات قامت بها المندوبية السامية للتخطيط. تقع العاصمة الإدارية للمغرب بجهة الرباط سلا القنيطرة، على ساحل المحيط الأطلسي في سهل منبسط، و على الضفة اليسرى لمصب نهر أبي رقراق الذي يفصلها عن مدينة سلا.
وتتميز هذه الجهة بأراضي زراعية وإمكانيات هائلة ومتنوعة من المنتوجات المحلية. كما توفر أكثر من 23% من الإنتاج الوطني، حسب الموقع الرسمي لوزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات.
الرباط عاصمة إفريقيا الثقافية ورابع المدن الامبراطورية
اتخدت الرباط عاصمة للمغرب في عهد الدولة العلوية سنة 1912. حيت كانت المملكة آنذاك تحت الحماية الفرنسية، والتي جعلت من المدينة مركزا رئيسيا لهم، و ظلت كذلك حتى بعد استقلال البلاد سنة 1956.
وأثناء حكم المرابطين تم إنشاء المدينة، ثم حكمت بعد ذلك من قبل الموحدين، حيث عرفت في عهدهم بالإشعاع التاريخي والحضاري، تحت قيادة مؤسسهم عبد المؤمن الذي قاد آنذاك حملات جهادية ساهمت في تقوية وتحصين المدينة. وأكمل حفيده يعقوب المنصور مهمة جده إذ أنشأ سورا عظيما عرف باسم “السور الموحدي”. كما ساهم أيضا في توسيع المدينة وازدهارها، بعدها أصبحت بمثابة قاعدة لبعثات الموحدين في الأندلس.
بعد سقوط دولة الموحدين اتخاذ المرينيون مدينة فاس عاصمة لهم سنة 1269 ميلادية، ودخلت الرباط في فترة طويلة من التراجع وعدم الاستقرار. وفي 1609 ميلادية، بعد مرسوم فيليب الثالث بطرد المسلمين من الأندلس، وجد 13000 موريسكي “سكان الأندلس المسلمين” ملاذا آمنا بمدينة الرباط. هذه الأخيرة انتعشت من جديد، كما أنها كانت وجهة لقراصنة البربر في القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر، حينها كانت الرباط تعرف باسم “سلا الجديدة”.
لكن الرباط انتظرت حكم العلويين لتشهد ازدهارا كبيرا. حيث تم تشييد القصر الملكي أو ما كان يعرف بدار المخزن سنة 1864، والذي ظل مكان استقبال ضيوف ورؤساء الدول على طول السنين.
وحظيت الرباط بشكل رسمي على لقب عاصمة المغرب سنة 1912. حيث انتقل السلطان مولاي يوسف من مدينة فاس متوجها إلى مدينة الأنوار ليجعل منها العاصمة الإدارية للمملكة المغربية، لتصمد الرباط في وجه الاستعمار ويتوالى عليها الملوك محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس حاليا.
تشهد العاصمة الإدارية في عهد الملك محمد السادس ازدهارا كبيرا وتوسعا عمرانيا مميزا وهي ملجأ لكل محبي الثقافة والعلم. وحظيت هذه الأخيرة على لقب عاصمة إفريقيا الثقافية.