اللون الغنائي هو البناء اللحني والشكل الفني الذي يصوغ عليه الملحن لحنَه. ويزخر الغناء العربي بالعديد من الألوان الغنائية التي يُغْنِي تنوعُها رصيدَنا الفني ك”الموشح” و”الموال” و”القصيدة” و”الدور” والطقطوقة”… ويتجلى الاختلاف من لون غنائي إلى آخر في الميزان الشعري للكلمات، وفي موضوعها، وفي طبيعة اللحن وهندسته. وفي هذه الحلقة نتناول أحد أرقى الألوان الغنائية العربية: الموشح.
تعريف الموشح وتاريخه
يعد الموشح لونا خاصا من ألوان النظم، يعود أصله إلى ما بعد فتح المسلمين للأندلس سنة (711 م، 92 ه). ولعله أقدم أشكال الأغاني في التراث العربي. وهو يمزج بين الشعر الموزون على أوزان مختلفة عن الأوزان المعتادة في القصيدة العربية العروضية، وبين اللحن الطربي الرشيق. واختُلف في السبب وراء تسمية الموشح بهذا الاسم. فيرى بعض المتخصصين أنه مشتق من الْوِشَاح الذي تتزين به المرأة، وهو منديل مزيَّن باللؤلؤ والجوهر. بينما يرى البعض الآخر أن الموشَّح يعني (الْمُعَلَّم) بلون أو بخط مختلف عن لون الثوب وفيه خطوط أو أغصان متناسقة في ما بينها أفقيا وعموديا. وهذا النوع من الزينة يشبه شكل الموشح.
ويُرجع الأستاذ سليم الحلو، مؤلف كتاب: “الموشحات الأندلسية، نشأتها وتطورها”، نشأة الموشحات إلى ثلاثة عوامل:
- العامل الأول: تأثير الأغنية الزجلية (الشعبية) في الاِنفتاح الذهني على هذا الكشف الجديد الذي سمي “الموشح”.
- العامل الثاني: التجديد الذي أدخله زرياب، ومن بعده تلامذتُه، في الألحان بالأندلس.
- العامل الثالث: التَّفَنُّنُ العَروضي الذي أصبح أُلْهِيَةَ المثقفين بالثقافة الأدبية في الأندلس يومئذ، وأصبح المتأدبون يمتحنون مقدرتهم ببناء الأشطار على غير ما شاع من أوزان.
الموشح التقليدي
وُظِّفَ الموشح أول أمره لاستيعاب المضامين الغَزَلية وما شابهها، ولكنه اتسع في ما بعدُ لاستيعاب مضامين أخرى كالمديح النبوي والابتهال. ولكن بسبب طبيعته لم يستوعب المضامين الأخرى كالوطنيات والحماسيات على سبيل المثال.
ينقسم الموشح في صيغته التقليدية إلى ثلاثة أقسام، الدور والخانة والقفلة. واجتهد الملحنون في صياغة كثير من الألحان بناء على هذا الشكل. وهو يتميز بتنوع إيقاعاته بين البسيط والمركَّب وهو ما يختلف فيه عن عن القصيدة التقليدية، وبالامتدادات الصوتية التي تزيد في جرعة الطرب وتمنع المغني مساحة واسعة لاستعراض مهاراته في الأداء. كما يتميز بغنائه بصوت واحد أو جماعي. ويصاحَب الموشح بآلات موسيقية تقليدية مثل العود والناي والقانون والرق بما أصبحت معه هذه الآلات جزءًا لا يتجزأ من هوية الموشح. ونذكر من أشهر الموشحات في مطلع القرن العشرين موشح: “مَلَا الكاسات” للملحن محمد عثمان من مصر، وموشح “يَمُرُّ عُجْباً” لعمر البطش من سوريا، و”يا شادي الألحان” لسيد درويش من مصر.
الموشح العصري
ورغم احتفاظ الموشح بطابعه وأسلوبه الأصليين، فإن بعض الموشحات أصابها “شيء من التحريف العفوي أو المقصود في ألحانه وإيقاعاته، ذلك لأن لكل مغنٍّ طريقته الخاصة في إخراج الألفاظ والألحان وزخرفتها تبعا لذوقه وموهبته الفنية”، بحسب الأستاذ سليم الحلو.
ومع التطور الذي عرفته الموسيقى العربية في القرن العشرين لم يعد الموشح يقتصر على القالب اللحني الذي عُرف به، حيث إن بِنْيَةَ الموشح دخلت عليها بعض العناصر الأخرى ك”الْمَذْهَب” الذي يتكرر بين مقاطع اللحن، على سبيل المثال لا الحصر. أضف إلى هذا التوزيع الغنائي الذي أصبح يعتمد على أسلوب التجاوب بين الأداء الجماعي والفردي، أو بين الأداء الرجالي والنسائي.
ومن أمثلة الموشح المتطور: موشح “يا مالكا قلبي” للموسيقار المصري محمد الموجي والذي غناه عبد الحليم حافظ، وموشح “مَرَّ هذا اليوم” الذي لحنه الموجي وغناه بصوته مع الكورال.
لا يختلف اثنان أن الموشح أثر بشكل كبير على تطور الموسيقى العربية الكلاسيكية والمعاصرة، وترك بصمته على الألوان الغنائية الأخرى خاصة القصيدة والدَّور. كما أثر في الرفع من الذائقة السماعية العربية، وفي نشر الكلمة العربية الفصيحة.