كانت أخبار الطقس والمناخ ودرجات الحرارة هذه السنة محور اهتمام جميع دول العالم دون استثناء. فبعد موجة الحر القاسية التي شهدتها غالبية دول العالم، أهمها الدول الأوروبية والتي أدت إلى وفاة عدد كبير من الأوروبيين نتيجة عدم تحملهم للحر، يلتفت انتباه الجميع من جديد إلى معضلة التغير القاسي في المناخ. كوننا بدأنا نشهد موجات لا مثيل لها ولم يشهدها الكوكب منذ قديم الأزل.
تكرر المشهد الذي شهدناه في 2022، وهو هروب الناس إلى برك المياه بسبب شدة الحر. لكن، هذه المرة، فرّ الناس من منازلهم إلى المياه بسبب الحرائق الهائلة التي طالت أراضٍ واسعة، ووصلت إلى المنازل وسط عجز في السيطرة عليها.
وهذا ما شهدته مثلا جزيرة ماوي في هاواي من حرائق هائلة استمرت لأيام، وامتدت على نطاق واسع ووصلت إلى المنازل والسيارات. إذ تم وصف ما حدث ب “المشهد الأسود”. وتفاقمت حدة النيران بسبب رياح عاتية غذتها قوة الإعصار الذي ضرب منطقة المحيط الهادئ.
ولم تكن هاواي الاستثناء، بل شهدت جزيرة تينيريفي السياحية الإسبانية حرائق هائلة قضت على أكثر من 3200 هكتار من الأراضي. ودفعت بآلاف الاشخاص إلى إخلاء منازلهم… إلى جانب دول أخرى ومناطق مختلفة عبر العالم عاشت الحالة نفسها. آخرها ما شهدته ليبيا من سيولً وفيضانات جراء إعصار “دانيال” المدمر، وما خلفه من مشاهد كارثية برزت في تهدم واختفاء تام للمباني وآلاف القتلى والمفقودين.
وقد سجلت الحرارة في الكثير من المدن أقصى درجاتها، قابل ذلك دولاً عانت من فيضانات وموسم أعاصير مبكر وتساقط غزير ومؤذٍ للأمطار، والبرد، والثلوج. إن الأمر يزداد سوءاً عاما على عام. وبالطبع، لذلك أسباب تتعلق بالتغيرات المناخية والاحتباس الحراري الناتج عن عوامل كثيرة دفعت إلى هذه الأحداث ويجب تداركها في الوقت القريب قبل أن يتحمل البشر عواقبها – وهم في الأصل المسبب الأول في التغيرات المناخية والاحتباس الحراري –
يُشار إلى أنّ الأغنياء يتحملون الذنب الأكبر في تسببهم لمشاكل الاحتباس الحراري. فأغنى 1% من سكان العالم يتسببون في انبعاثات الغازات الدفيئة بشكل أكبر مما يتسبب به أفقر 50% ممن يعيشون على كوكب الأرض.
بعض من أسباب التغيرات المناخية
يلخص تقرير الأمم المتحدة أسباب التغيرات المناخية في عدة عوامل أبرزها:
توليد الطاقة
فلا يزال توليد معظم كميات الكهرباء يتم عن طريق حرق الفحم أو الزيت أو الغاز. وينتج عن ذلك ثاني أكسيد الكربون وأكسيد النيتروز – وهي غازات دفيئة قوية تغطي الأرض وتحبس حرارة الشمس.
تصنيع البضائع
غالبا ما تعمل الآلات المستخدمة في عملية التصنيع على الفحم أو الزيت أو الغاز. وبعض المواد، مثل البلاستيك، مصنوعة من مواد كيميائية مصدرها الوقود الأحفوري. فالصناعات التحويلية هي واحدة من أكبر المساهمين في انبعاثات الغازات الدفيئة في جميع أنحاء العالم.
قطع الغابات
إذ يتم تدمير ما يقارب 12 مليون هكتار من الغابات كل عام. ونظرًا لأن الغابات تمتص ثاني أكسيد الكربون. فإن تدميرها يحد أيضاً من قدرة الطبيعة على إبقاء الانبعاثات خارج الغلاف الجوي. وتعد إزالة الغابات، إلى جانب الزراعة والتغيرات الأخرى في استخدام الأراضي، مسؤولة عما يقارب ربع انبعاثات غازات الدفيئة العالمية.
استخدام وسائل النقل
تمثل مركبات الطرق الجزء الأكبر من احتراق المنتجات القائمة على البترول، مثل البنزين، في محركات الاحتراق الداخلي. لكن الانبعاثات من السفن والطائرات أيضًا مستمرة في الازدياد. النقل مسؤولٌ عما يقارب ربع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية المرتبطة بالطاقة. وتشير التوقعات إلى زيادةٍ كبيرة في استخدام الطاقة لأغراض النقل خلال السنوات القادمة.
الإنتاج الغذائي
يتسبب إنتاج الغذاء في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والميثان والغازات الدفيئة الأخرى بطرقٍ مختلفة. ومن أسباب ذلك، إزالة الغابات وإخلاء الأراضي لأغراض الزراعة والرعي. إضافة إلى عمليات الهضم لدى الأبقار والأغنام، وإنتاج واستخدام الأسمدة والسماد الطبيعي لزراعة المحاصيل. واستخدام الطاقة لتشغيل معدات المزرعة أو قوارب الصيد، باستخدام الوقود الأحفوري عادةً. كل ذلك يجعل إنتاج الغذاء مساهماً رئيسياً في التغيرات المناخية.
إلى أي مدى يمكن أن تصل تأثيرات التغيرات المناخية؟
حسب التقرير نفسه، إن آثار التغيرات المناخية تتمثل في ارتفاع درجات الحرارة. فمع ارتفاع تركيزات الغازات الدفيئة، ترتفع درجة حرارة سطح الأرض. وقد كان العقد الماضي، 2011-2020، الأكثر دفئًا على الإطلاق.
ومنذ الثمانينيات، كان كل عقدٍ أكثر دفئًا من العقد الذي سبقه. وتشهد جميع مناطق اليابسة تقريباً المزيد من الأيام الحارة وموجات الحر. وتشتعل حرائق الغابات بسهولة أكبر وتنتشر بسرعة أكبر عندما تكون الأجواء أكثر سخونةً. وقد ارتفعت درجات الحرارة في القطب الشمالي بسرعةٍ مضاعفة على الأقل عن المتوسط العالمي.
تتمثل الآثار أيضاً في العواصف الشديدة، فقد أصبحت العواصف المدمرة أكثر حدةً وتكرارًا في العديد من المناطق. ومع ارتفاع درجات الحرارة، تزيد عملية تبخر ماء المحيطات، مما يؤدي إلى تفاقم هطول الأمطار الغزيرة والفيضانات، وتكوين الأعاصير والعواصف المدمرة.
كما يتأثر تواتر ونطاق العواصف الاستوائية بارتفاع درجة حرارة المحيطات، إذ تشتد الأعاصير والزوابع والأعاصير الاستوائية عندما تنتقل على مياه دافئة على سطح المحيط.
يمكن أن نضيف أيضا زيادة الجفاف. إذ يؤدي تغير المناخ إلى تغيير مستوى توفر المياه. مما يجعلها أكثر ندرةً في المزيد من المناطق. ويؤدي الاحترار العالمي إلى تفاقم نقص المياه في المناطق الفقيرة بالمياه، كما يؤدي إلى زيادة مخاطر الجفاف في مناطق تعتمد بالأساس على الزراعة، ويؤثر بالتالي على المحاصيل. ويزيد الجفاف البيئي من ضعف النظم البيئية. إذ يمكن أن يثير الجفاف أيضاً عواصف رملية وترابية مدمرة يمكن أن تنقل مليارات الأطنان من الرمال عبر القارات.
ارتفاع درجة حرارة المحيطات من أهم عواقب التغيرات المناخية. حيث تمتص المحيطات معظم حرارة الاحتباس الحراري. وقد ازداد معدل ارتفاع درجة حرارة المحيطات بشدة خلال العقدين الماضيين، عبر جميع أعماق المحيطات. ومع ارتفاع درجة حرارة المحيطات، يزداد حجمها مع تمدد المياه بسبب ارتفاع درجة حرارتها. كما يتسبب ذوبان الصفائح الجليدية في ارتفاع مستويات سطح البحار، مما يهدد المجتمعات الساحلية والجُزُرية. وبالإضافة إلى ذلك، تمتص المحيطات غاز ثاني أكسيد الكربون، وتمنعها من الانطلاق نحو الغلاف الجوي، لكن زيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون تجعل المحيطات أكثر حمضية.
احترار سطح المياه … ماذا ينتظرنا؟
حسب المركز العربي للمناخ، إن ارتفاع درجة حرارة سطح مياه البحار والمحيطات يعتبر مصدراً للطاقة التي تغذي العواصف والمنخفضات الجوية والأعاصير. فكلما زادت حرارة سطح الماء، كلما كان الفارق الحراري أكبر ما بين الكتل الهوائية وسطح الماء. مما يؤدي إلى زيادة عمق المنخفضات الجوية وزيادة قوة السحب وبالتالي تحولها لتصبح عالية التأثير.
ومن المعروف في فيزياء المناخ أن الطاقة الحرارية المخزنة داخل المحيطات هي التي تغذي الاعاصير المدارية القوية وتمدها بالطاقة اللازمة لاستمراريتها. فعندما تتمركز الأعاصير داخل المياه الدافئة تستمر في التطور حتى تموت داخل اليابسة أو تتجه نحو المياه الباردة ثم تتلاشى.
فيما ذكر المركز الإعلامي للعلوم في المملكة المتحدة (The Science Media Centre) أنّ احترار المحيطات يؤثر على أنماط الطقس على اليابسة. مما يؤدي إلى موجات الحر والجفاف في بعض الأماكن والعواصف في أماكن أخرى.
ولكل هذا انعكاس مباشر على الغذاء. فمع ازدياد حمضية المحيطات، أصبحت الموارد البحرية التي تغذي مليارات البشر معرضةً للخطر. وقد أدت التغيرات في الجليد والغطاء الجليدي في العديد من مناطق القطب الشمالي إلى تعطيل الإمدادات الغذائية من مصادر الرعي والصيد وصيد الأسماك. كما يمكن أن يؤدي الإجهاد الحراري إلى تقليل المياه والأراضي العشبية الصالحة للرعي، مما يتسبب في انخفاض غلة المحاصيل ويؤثر على الثروة الحيوانية.
ويشهد العالم مزيداً من المخاطر الصحية، إذ تضر تأثيرات المناخ بالصحة، من خلال تلوث الهواء، والأمراض، والظواهر الجوية الشديدة، والتهجير القسري، والضغوط على الصحة العقلية، وزيادة الجوع وسوء التغذية في الأماكن التي لا يستطيع الناس فيها زراعة المحاصيل أو العثور على غذاءٍ كافٍ. وفي كل عام، تؤدي العوامل البيئية بحياة ما يقارب 13 مليون شخص. وتؤدي أنماط الطقس المتغيرة إلى انتشار الأمراض، وتزيد الظواهر الجوية المتطرفة من الوفيات وتجعل من الصعب على أنظمة الرعاية الصحية مواكبة الأمر.
وقد أدت الأحداث المتعلقة بالطقس إلى نزوح ما يقدر بنحو 23.1 مليون شخص في المتوسط كل عام. مما ترك الكثيرين عرضةً للفقر بشكلٍ أكبر. ويأتي معظم اللاجئون من البلدان الأكثر ضعفاً والأقل استعداداً للتكيف مع آثار التغيرات المناخية.
الشهر الأشد حرارة
وكان “مرصد كوبرنيكوس للمناخ” التابع للاتحاد الأوروبي قد أوضح في تقرير له عن كون شهر يونيو 2023 الأكثر حراً عالمياً مع ارتفاع بـ 0.5 درجة مئوية فوق معدل 1991-2020، متجاوزاً بكثير المستوى القياسي السابق العائد إلى يونيو 2019.
وقد وصل الجليد البحري في أنتاركتيكا إلى أدنى مستوياته لشهر يونيو منذ بدء عمليات المراقبة عبر الأقمار الصناعية، أو 17% أقل من المتوسط.
ماذا عن العام المقبل؟
أوضحت مجموعة بيركلي إيرث الأميركية لمراقبة درجات الحرارة أن من أسباب ارتفاع درجات الحرارة العالمية هذه السنة عودة ظاهرة ارتفاع درجة حرارة المحيط الهادي المعروفة باسم النينيو. والتي شهدها العالم سنة 2022 أيضاً، كما حذرت من هذه الظاهرة التي قد تجعل الأرض أكثر سخونة عام 2024.
وقال غافين شميدت، مدير معهد غودارد لدراسات الفضاء التابع لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، إن العام المقبل قد يكون أكثر حرّا من هذا العام بسبب ظاهرة النينيو. وقد أصدر باحثون دراسة حديثة توقعوا فيها عودة مناخ الأرض في العام 2030 إلى وضع يماثل ما كان عليه قبل ثلاثة ملايين سنة.
وسيصبح المناخ مشابها تحديداً لما كانت حال الأرض عليه في منتصف العصر البيلوسيني، حين كان الطقس جافاً، ولم تكن القارة الأمريكية الشمالية متصلة بالجنوبية. ولم تكن غرينلاند مكسوة بالجليد، وكان منسوب البحار أعلى مما هو عليه الآن بثمانية عشر متراً.
أما درجات الحرارة فكانت أعلى مما هي عليه الآن بما بين 1,8 درجة و3,6. لكن منسوب البحار لن يرتفع إلى هذا الحد بسرعة، لأن ذوبان الجليد القطبي يتطلب وقتا طويلا.