تزامنا مع حلول فصل الخريف/الشتاء تبدأ معاناة العديد من الأشخاص من افتقار للطاقة، والإحساس بالقلق الشديد والنوم المفرط. فما الأسباب وراء هذه التغيرات المفاجئة؟
تتحمس فئة مهمة من الأشخاص جراء حلول فصل الخريف/ الشتاء، إذ ينظم البعض حفلات مع العائلة والأصدقاء، أو رحلات للاستمتاع بالجو البارد والممطر.
في حين يمثل هذا الفصل للبعض الآخر كابوسا يوميا معاشا، إذ تنخفض طاقتهم وينتابهم شعور مفاجئ بالحزن واليأس الشديدين، كل هذه الأعراض تشير إلى إصابتهم بالاضطراب العاطفي الموسمي. فما هو هذا الاضطراب؟ ما هي أهم أعراضه وأسبابه؟ وما هي أهم طرق علاجه والوقاية منه؟
الاضطراب العاطفي الموسمي (seasonal affective disorder) أو ما يشار إليه اختصارا SAD، هو مصطلح ظهر في منتصف القرن الماضي على يد العالم النفسي من أصول افريقية “نورمان إي روزنتال”، الذي يعد صاحب أول محاولة لوصف هذا الاضطراب بدقة.
وهو نوع من أنواع الاكتئاب الكثيرة، إذ يأتي ويختفي عادة بنمط موسمي، لكنه يتكرر بالأكثر كل عام على طول فصلي الخريف والشتاء، لهذا يسمى “باكتئاب الشتاء- Winter blues”، ويتلاشى مع اقتراب فصلي الربيع والصيف.
النساء أكثر عرضة للإصابة
حسب دراسة أجرتها جمعية الطب النفسي الأمريكية، خلال نونبر الجاري، فإن ما يقارب ربع الأمريكيين (24%) يصرحون بشعورهم بالاكتئاب بشكل عام بمجرد حلول فصل الشتاء، إذ يفيد اثنان من كل خمسة (38%) أن مزاجهم يتعكر تلقائيا. لكنهم يتطلعون، على الرغم من ذلك، إلى القيام ببعض التقاليد الشتوية. فيما يتحمس (44%) منهم فقط لقضاء وقت مع الأصدقاء والعائلة.
كما أفادت الدراسة نفسها أن (41%) من النساء أكثر عرضة للإصابة بهذا النوع من الاضطراب مقارنة بالرجال بنسبة (34%).
أعراض الاضطراب العاطفي الموسمي
تشمل أعراض الاضطراب العاطفي الموسمي فئة مرتبطة بنمط الشتاء، وأخرى متعلقة بنمط الصيف. لكنها تختلف عموما من شخص لآخر، إذ ليس كل شخص مصاب بهذا المرض لديه نفس الأعراض
نمط الشتاء له أعراض جد وخيمة تتجلى في:
- النوم الزائد (صعوبة البقاء مستيقظا).
- الانسحاب الاجتماعي.
- الشعور بصعوبة في التركيز.
- انخفاض مهول في الطاقة.
- الإفراط في تناول الطعام (رغبة في أكل كمية كبيرة من الكاربوهيدرات مما يتسبب في زيادة الوزن).
- الشعور بالحزن واليأس.
- تردد أفكار انتحارية.
أعراض نمط الصيف
- الأرق.
- ضعف في الشهية مما يؤدي إلى فقدان الوزن.
- السلوك العنيف.
- القلق والإثارة.
ونشرت أيضا جمعية الصحة العقلية في أمريكا عبر موقعها الرسمي، مقالا يفيد أن عمر الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشتاء يتراوح في الغالب بين 20 و30 عاما. لكن، هناك إمكانية ظهور أعراضه في عمر آخر.
تجربة نورمان إي رونتال مع اضطراب SAD
ويروي نورمان إي روزنتال من خلال موقعه الخاص تجربته الشخصية مع اضطراب SAD، إذ بعد انتقاله بأشهر قليلة من جنوب إفريقيا إلى مدينة نيويورك، بدأ يعتريه شعور مفاجئ بالخوف، وعدم الارتياح، كما واجه صعوبة في الإنتاج، وخمول مفرط.
يذكر أيضا أنه مر بهذه التجربة ثلاث سنوات متتالية خلال إقامته بنيويورك. ويؤكد أن تجربته الخاصة مع هذا المرض أثرت على اختياره للبحث والغوص في اكتشاف المزيد عن اضطراب SAD ، إذ أصبح رائدا في استخدام العلاج بالضوء.
ووصف نفس الطبيب أن بمجرد حلول فصل الربيع تختفي الأعراض حيث يقول: “ما هذا بحق السماء؟ ما هذه الضجة التي كنت أثيرها خلال الشتاء؟ ليس سيئا للغاية”
وهذا ما جعله يؤلف كتاب “Winter Blues” الذي لازال يحقق مبيعات كبيرة حول العالم. ويشمل الكتاب بحرا من المعلومات المتعلقة بالتطورات الأخيرة في العلاجات المعتمدة. ويوفر أيضا اختبارا ذاتيا يمكن القراء من اجتيازه لتقييم التغيرات المزاجية الموسمية الخاصة بهم.
الأسباب وراء الإصابة بالاضطراب العاطفي الموسمي
لا يزال السبب المحدد للاضطراب العاطفي الموسمي غير معروف. لكن هناك عدة عوامل تلعب دورا مهما في الإصابة بهذا المرض، وتتجلى هذه الأسباب في:
- الساعة البيولوجية: قد يتسبب انخفاض مستوى ضوء الشمس في الخريف/ الشتاء، في ظهور اكتئاب الشتاء، ويؤدي هذا الانخفاض في تعطيل إيقاع الساعة البيولوجية الداخلية للجسم مما يؤدي إلى الشعور بالاكتئاب.
- مستوى السيروتونين: تشير الأبحاث أيضا إلى أن ضوء الشمس يتحكم في الجزيئات التي تساعد في الحفاظ على مستويات السيروتونين العادية. ويؤدي انخفاض السيروتونين، وهو مادة كيميائية في الدماغ (ناقل عصبي)، إلى تغير الحالة المزاجية لتبدأ أعراض المرض بالظهور بشكل تدريجي.
- مستوى الميلاتونين: يعاني الأشخاص المصابين بالاضطراب الموسمي من إنتاجية مفرطة لهرمون الميلاتونين، وهو هرمون أساسي مسؤول على دورة النوم والاستيقاظ الطبيعية، مما يؤدي الى تعطيل توازنه، لذلك يشعر الأشخاص المصابون بهذا المرض برغبة شديدة في النوم بدلا من الأرق.
- فيتامين (د): يلعب أيضا فيتامين د دورا مهما في تفاقم هذه الأعراض، لأن هذا الأخير يعزز من نشاط السيروتونين. وبمجرد حلول فصل الشتاء يقل ضوء النهار مما قد يحرم الأشخاص من الحصول على ما يكفي من فيتامين د، وهذا يقود تلقائيا إلى تدني مستوى السيروتونين.
تحديات صعوبة تشخيص SAD
يعتبر SAD أكثر شيوعا عند الذين يعانون من اضطراب اكتئاب كبير أو اضطراب ثنائي القطب، بحيث تتفاقم أعراض إصابتهم مقارنة بالآخرين. كما يؤدي وجود قرابة الدم مع أقارب لديهم تاريخ مع أنواع الاكتئاب إلى ارتفاع احتمالية الإصابة بالاضطراب العاطفي الموسمي.
ويصعب على متخصصي الطب النفسي تشخيص هذا المرض لوجود أنواع متعددة من الاكتئاب تؤدي إلى ظهور نفس الأعراض. ونشر المعهد الوطني للصحة العقلية من خلال دراسة نشرها عبر موقعه الرسمي، أهم النقط التي تساعد المختص في عملية التشخيص والتي تتلخص في:
- ضرورة معاناة المريض من أعراض الاكتئاب الشديد، أو أي أعراض من المذكورة أعلاه، أثناء مواسم محددة (الخريف/ الشتاء/ الربيع/ الصيف).
- عدم وجود اختبار سحري يكشف عن حقيقة الإصابة بهذا الاضطراب. لكن، يعتمد الأطباء النفسيين على البحث المطول في تاريخ المريض الطبي، من خلال طرحهم لمجوعة من الأسئلة. كما ينهج البعض إجراء فحص بدني وفحوصات للدم من أجل استبعاد وجود اضطرابات أخرى مشابهة للاضطراب العاطفي الموسمي.
طرق علاج الاضطراب العاطفي الموسمي
هناك أنواع مختلفة من العلاجات الفعالة. وينصح د نورمان إي روزنتال، من خلال تجربته، بالجمع بين العلاجات المتوفرة. وحسب قوله “التركيبة عادة ما تكون أفضل من أي علاج واحد”. وتتضمن هذه العلاجات :
العلاج بالضوء:
وهو علاج يركز على جلب المزيد من الضوء إلى البيئة خلال الأيام المظلمة (الشتاء)، ويتم هذا العلاج بشكل طبيعي واصطناعي. إذ بالشكل الطبيعي ينصح بالمشي خلال الصباح، لمدة زمنية لا تقل على 30 دقيقة يوميا، بهدف تعريض العينين لضوء إضافي. كما يشيد علماء النفس بالسماح لأشعة الشمس القليلة بالدخول عبر النوافذ.
أما بالنسبة للشكل الاصطناعي، فإن الدراسات تفيد إلى ضرورة استخدام مصابيح خاصة لعلاج الاضطراب. وهي عبارة عن ضوء اصطناعي يخول للدماغ الخضوع لإفراز مواد كيميائية تساعد في تعزيز الحالة المزاجية.
ينصح بالجلوس أو العمل أمام صناديق الضوء يوميا لمدة 30 إلى 45 دقيقة، وهي ذات ضوء ساطع آمن، له آثار جانبية قليلة. إذ يعمل على تعويض نقص أشعة الشمس الطبيعية في الأشهر المظلمة، كما أنه يعتبر من بين العلاجات الفعالة للاضطراب العاطفي الموسمي.
العلاج بالتأمل:
بتعلق الأمر ببذل جهد كبير في التعامل مع التوتر والتقليل منه، وهنا ينصح د. نورمان بأكثر الطرق فاعلية لتقليل التوتر والتي هي التأمل. وذلك من خلال تجربته الخاصة معها، إذ تلقى جلسات منتظمة، وصفها ب “المساعدة الهائلة”.
ويعتبر التأمل من بين الطقوس أو العلاجات التي تدخل العقل والجسم في عملية تركيز مقصودة، والتي يتم من خلالها التقليل من التوتر والأفكار العشوائية المتعلقة بالماضي والمستقبل. ولها عدة أشكال مختلفة كالتأمل الثاقب (فيباسانا)، والتأمل في المجال المفتوح وهو بمثابة مراقبة تنفس المرء، وأخيرا التأمل في المشي.
العلاج بالتمارين الرياضية:
ممارسة أي نوع من أنواع الرياضة كالمشي والرقص، يجلب للأشخاص المصابين بالاضطراب العاطفي الموسمي نوعا من الشعور بالسعادة والمرح، لكن يوصي بالالتزام بممارسة هذه التمارين بشكل منتظم.
العلاج بالأدوية المضادة للاكتئاب:
تعد مضادات الاكتئاب جزءا مهما في نظام إدارة أعراض هذا الاضطراب، والتي يعتمد عليها متخصصو علم النفس في علاج مرضاهم. إذ تعزز مزاجهم بشكل كبير، كما أن هناك إمكانية منع تكرار هذه النوبات الموسمية عند تناولها يوميا من بداية فصل الخريف حتى أوائل الربيع المقبل.
لكن حسب إحصائيات جمعية الطب النفسي الأمريكية، فإن (60%) من الأشخاص الذين يصابون بهذا الاضطراب لم يخضعوا للعلاج منه رغم توفر وفعالية الطرق العلاجية.
هل يمكن الوقاية أو منع الإصابة بالاضطراب الموسمي العاطفي؟
ليست هناك وصفة سحرية لمنع الإصابة باكتئاب الشتاء. لكن بالرغم من ذلك، ينصح الأطباء أنه بمجرد ملاحظة أي نوع من الأعراض المذكورة أعلاه، فهذا سيساعدهم بشكل كبير على التنبؤ به وبدء العلاجات قبل الخريف للمساعدة في منع أو تقليل الاكتئاب.
ومن الضروري الأخذ بعلامات الاضطراب العاطفي الموسمي على محمل الجد، إذ هناك إمكانية زيادة الوضع سوءا إذا لم تتم معالجته.