منذ أن وُجدت البشرية والإنسان معتاد على التَعايش مع البيئة المحيطة به بما يناسب رؤيته الخاصة في تحقيق أفضل سُبل الراحة والسعادة له. فانتقل من حياة البدائيين إلى حياة أكثر تطورًا ونموًا عبر السنين وصولًا إلى عصر التكنولوجيا والذي يُعد واحدًا من أكبر إنجازات البشرية على الإطلاق.
ورغم أن راحة الإنسان كانت نتيجة لهذه الاختراعات والاكتشافات التي شَغل نفسه بها على مدار التاريخ. إلّا أنه اعتاد الشعور بالخوف مما اخترع واكتشف. فمن الطبيعي أن تكون الأمور الجديدة مخيفة بعض الشيء، إلّا أن الأكثر منطقية أن يعتاد عليها فيما بعد فيصبح هذا الاكتشاف بندا من ضمن بنود القائمة الطويلة التي يعتمد عليها في نمط حياته التالية.
وهو الوضع الذي رافق اختراع السيارة لأول مرة، فكان التغيير مخيفًا بذات القدر من الخوف الذي كان يعتريه عندما انتقل من المشي وركوب الدواب إلى استخدام العربات التي تجرها الحيوانات وصولًا إلى اختراعه السيارة.
ما الذي يجعل من الخوف من الذكاء الاصطناعي مختلفًا؟
يعتقد الكثيرون أن هذه المخاوف قد بدأت لأول مرة، ليس لأن الذكاء الاصطناعي كان جديدًا على البشرية كغيره من الاختراعات، بل بسبب الصورة النمطية التي اعتاد الناس رؤيتها عبر الأعمال السنيمائية وروايات الخيال العلمي. فأصبح من المستحيل إقناعهم أن فكرة الذكاء الاصطناعي تفوق بكثير تلك الصورة المعتادة للرجال الآليين المتمردين على مخترعيهم من البشر. وذلك بعد أن سيطرت على الآليين فكرة أنهم أفضل من أن يقتصر وجودهم على مساعدة البشر في عيش حياة مريحة ورغيدة فقط، بل عليهم التحكم بالبشرية وليس العكس. وبذلك أصبح الذكاء الاصطناعي مرتبطا لديهم بتلك الآلات ناكرة الجميل.
يُعرف الذكاء الاصطناعي بأنه محاكاة للذكاء البشري. إذ تُمكّن آلة ما من أداء المهام بفعالية أكبر من خلال القيام بالمهمة بشكل متكرر. ومن ثم تحسين الأداء تلقائيًا وذاتيًا من خلال المعلومات التي تقوم بتجميعها عبر التجارب المتكررة السابقة.
الخوف من خسارة الوظائف لصالح الذكاء الاصطناعي
نُشر تقرير في مارس الماضي من بنك غولدمان ساكس يُشير إلى أن الذكاء الاصطناعي سيعوض أكثر من 300 مليون وظيفة بدوام كامل. وبناءً عليه، يمكن القول إن هناك احتمالية بأن الخوف المتزايد تجاه الذكاء الاصطناعي ليس مرتبطًا فقط بقدرته على التطور المستمر أو لتحوله للشخصية الشريرة في العمل الفني كما سبق وذكرنا. بل يرتبط بمدى تأثير هذه التقنيات على حياتهم المهنية. فإن كان هذا التطور بعيدًا عنهم بشكل شخصي فلا بأس به، وإن كان الفرد هو المتضرر، تبدأ نوبات القلق والخوف تسيطر عليه.
وهناك استطلاع رأي قام به Resume Genius هذا العام شمل 1000 موظف، أعرب فيه 69% منهم من قلقهم المتزايد بخصوص احتمالية تولي الذكاء الاصطناعي وظائفهم. إضافة إلى دراسة استقصائية سابقة بتكليف من شركة مايكروسوفت شملت 31000 موظفا تُظهر أن 49% منهم يخافون من قدرة هذه التقنية على سرقة وظائفهم. كما أظهر استطلاع القوى العاملة العالمي السنوي لشركة برايس ووترهاوس كوبرز أن ما يقرب من ثلث المشاركين في الاستطلاع أعربوا عن قلقهم بشأن احتمالية استبدال دورهم بالتكنولوجيا في غضون ثلاث سنوات.
وجد استطلاع أن العمال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا هم الفئة الأكثر قلقًا من سيطرة التكنولوجيا الجديدة على وظائفهم وهذه النسبة أعلى بمقدار 10% عن أي فئة عمرية أخرى.
هل المخاوف من هيمنة الذكاء الاصطناعي خوف منطقي أم ردة فعل مبالغ فيها؟
يرى المختصون المهنيون وخبراء الموارد البشرية أن هذا القلق والخوف المتزايد أمر منطقي، ويمكن تبريره بشكل طبيعي. إلّا أنه من الخطأ أن يتحكم الخوف بما يفعله البشر أو ما عليهم فعله. فبدلًا من القلق من خسارة الوظيفة لصالح الذكاء الاصطناعي، على الناس محاولة تعلم كيفية استخدام هذه التقنيات في جعلهم موظفين أكثر قيمة وفائدة في مجال عملهم. وعليهم أيضًا التعامل مع الذكاء الاصطناعي كأداة ووسيلة للوصول إلى ما يطمحون إليه في مسارهم المهني وليس بكونها تهديدًا لهذا المسار.
وفي الطرف الآخر، يرى آخرون أن هذا القلق أمرًا مبالغًا فيه. لأن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه أن يحل محل البشر في الوظائف، خاصة أن البشر يملكون القدرة على التمييز بين ما هو خاطئ وصائب اعتمادًا على العقل والحواس. وهو ما لا يمكن لأي آلة أن تملكه. وإن حدث وأوجدوا طريقة لتحقيق ذلك فلا يمكن للآلة أن تصل لذات المستوى الذي يمكن للعقل البشري أن يصل إليه. فالعمل البشري يعطي قيمة وجودة للعمل المطلوب بشكل لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يضاهيه مهما بلغ من التطور. وعلى الناس فهم طبيعة سير الأمور. ففي الوقت الذي تتم فيه خسارة العديد من الوظائف لصالح الذكاء الاصطناعي تصبح هناك حاجة مُلحّة في المقابل تخلق وظائف جديدة.
تقِل حِدة المشكلة حين يُعرف حلُها..
خوف الناس من خسارة وظائفهم لصالح الذكاء الاصطناعي يحدث بالفعل، إلّا أنه لم يحن الوقت بعد لإطلاق صافرات الإنذار. حيث إن معدل سيطرة الروبوتات على وظائف البشر تمضي بمعدل أقل بكثير مما يعتقده الناس. وهذا ما أكده أستاذ علم الاجتماع إريك داهلين في بحث أجراه في نونبر 2022 في جامعة بريغهام يونغ في يوتا في الولايات المتحدة.
يمكن الإقرار بأن الحل الأفضل والأكثر منطقية أن يتعلم الناس كيفية العمل جنبًا إلى جنب مع الذكاء الاصطناعي كما تعلموا سابقًا كيفية العيش مع التكنولوجيا في بداية عصر اكتشافها. وعليهم التحكم والسيطرة على هذا القلق. ففي نهاية الأمر هم من يملكون أحقية الاختيار بين القلق من الذكاء الاصطناعي أو التعرف عليه واستخدامه لصالحهم. لأن ما سيضرهم حقًا هو الخوف من الخسارة للدرجة التي تمنعهم من المحاولة على أقل تقدير.